أبو الشهداء .. رائد الحرية

25/11/2012 08:52

إن إعمال الفكر يوصلك إلي أعماق الأشياء فيستخرج منه اللؤلؤ والمرجان. وتشق الطريق في التبحر والاطلاع والعرفان . والإسلام ركز على ممارسة الفكر وجعله شارة للمؤمنين الصالحين الذين يبنون تحركاتهم في الحياة على التدبر المنبثق من التفكر.  

والفكر هبة إلهية وعملية إيجابية ينعكس بوساطته كل العالم الموضوعي بما فيه من مفاهيم واحكام ونظريات . نضرب على ذلك مثلا :

لو فكرنا قليلا في أشهرنا العربية مثلا. وكيف بدأت بالمحرم الحرام . هذا الشهر الذي يذكرنا بالتضحيات والبطولات وكيف ختمت بذي الحجة الذي فيه معالم التضحيات حين قدم الخليل (ع) ولده قربانا للدين . وكيف قدم الحسين (ع) في المحرم كل ما لديه من النفس والنفيس ومن الأحباب والأصحاب قرابين للدين.

 فالعام العربي الإسلامي يبدأ بالفداء .. وينتهي بالفداء .. ليعلم المسلمون درسا في الفداء .. وان الحياة روحها الفداء.. تبدأ وتنتهي بالفداء ..

إبراهيم الخليل (ع) يوطن النفس على ذبح ولده العزيز بأمر الله.

هل تصورت هذه المأساة بما فيها من البعد الأسمى فى الفناء فى الذات العليا . فى العقيدة والمبدأ ؟ .

الله .. ما اعظم هذا البلاء .. الذي قال فيه رب العالمين:" وإن هذا لهو البلاء المبين ".

ويبدأ الفصل الجديد .. وتتكرر المأساة .. ويتحرك الحسين بحركة أبيه إبراهيم يحدو بقافلة الفداء

 لكن هل تصورت ؟؟

اجل، تصورت كيف رسم الحسين على لوحة الوجود صورا نوعية متميزة من صور الفداء .. والنضال والجهاد.

إنه تنازل عن كل مقومات الحياة . تنازل عن الزاد .. تنازل عن الماء بل تنازل حتى عن الهواء .. حيث تمت المأساة بقطع الرأس الشريف.. وانتهت حياة الزاد والماء والهواء.. وبدأت حياة النبل والقرب والعلاء . فأين الآكل من النبل ؟ وأين الشرب من القرب ؟ وأين الهواء من العلاء ؟

 انه الحسين .. حذا حذوا سيدنا إبراهيم بالتضحية والفداء. فان كان إبراهيم قد اقدم على مقدمات القربان .. ووضع المدية على عتق ولده إسماعيل ليذبحه ، فعلم الله خلوصه واخلاصه فقبل منه ذلك .. وتوقف الفداء .. فان فداء الحسين قد تجاوز الحد وكسر السد ، وقدم القرابين تلو القرابين لرب العالمين  ، على ارض البطولات حيث هوت نجوم التفاني.. هناك حيث انتصر الحق..

حتى قدم بيده رضيعه ليذبح بين يديه ، فيقطع الرضيع قماطه ويعانق أباه .. ويملأ الحسين كفيه بدم الرضيع ويرمى به الى السماء .

يا أمة الإسلام.. هذا حسين الفداء يشق لكم طريق المجد فى سبيل العقيدة ويقول لكم : ان العقيدة حياة وان الحياة عقيدة ، فاتخذوه نبراسا لينير لكم دروب الحياة.

         قف دون رأيك فى الحياة مجاهدا           إن الحياة عقيدة وجهاد

والعقيدة دون جهاد موت بطئ وخمول .. وزهرة ذابلة، وسفينة عاطلة.

ان الحسين علم الحياة كيف تبدأ بالممات ليكتب لها البقاء فى هذا الوجود

       لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى           حتى يراق على جوانبه الدم

إن الحسين علم أبناء الحياة بان الحياة مع الظالمين برم وذلة .. ويقول الحسين عليه السلام : " وهيهات منا الذلة "

إنها الحرية .. الطعم المفضل لهذه الحياة.

إنها الحرية .. اللون الناصع لهذه الحياة.

إنها الحرية .. الرائحة الذكية للحياة .

إنها .. سر الحياة

والحرية لها روح.. روحها الكرم والخلوص من الشوائب ، من اللؤم روحها الفضيلة والحسنى

إنها تكسير القيود السياسية والاجتماعية وقيود الظلم والتعالى على العالمين

إنها الحرية خاصة هذا الوجود . فلا وجود بلا حرية ..

إنها العمل بالإرادة ، وبالطبيعة والسجية

إنها الحركة من السيرورة الى الصيرورة وفق الطبيعة التي أرادها الخالق بسرعة متناسبة مع الزمان .. فإذا صادفت العائق.. انقلبت دما عبيطا .. وكان الفداء .

إنها الحرية .. وظيفة الحياة تتحرك نحو التقدم، نحو العطاء، نحو الفضيلة ونشر العلم وخدمة البشر.. كما هو الحال فى حركة الأنبياء والائمة والأولياء ..فإذا اصطدمت مع عوامل الشر وقوى الباطل المانعة عن المفاهيم ألحقه وميزان الصدق تحولت الى مارد وانقلب لونها من حرية بيضاء الى حرية حمراء .

الحرية الحمراء ذات عطاء .. وكان الدم لها عطاء .

( وللحرية الحمراء باب                         بكل يد مضرجة يدق )

( ان كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلى يا سيوف خذيني )

لان الحر يعلو على القسر ، وينكر الخضوع ويسمو عن الركوع

إنها الحرية .. والحرية عنوانها الائتمار بقانون السماء ، والانتهاء عما نهى عنه رب السماء .

ان الحرية تملى على الإنسانية ان تتحلى بالرحابة لتقبل الإعراب عن الفكر والرأي فان حرية الفكر والرأي من أثمن حقوق الإنسان .. وان يكون لكل فرد من أفراد الأمة الحرية فى مجالات كثيرة فى الكلام والكتابة والنشر فى إطار المعقول ليكون المرء مسؤولا عن عمله فى حدود يعينها القانون الإلهي .

وما هي هذه الحدود التي يعينها القانون ؟.

معناها ضمنا الاعتراف بحقوق الآخرين كذلك. واحترام الآراء الأخرى ، واتباع العدالة . وهذا ما أعلن فى منشور حقوق الإنسان الذي سبقه الإسلام بعدة قرون .

إن الجاهلية التي انتشرت في أمة الإسلام انتشار الوباء والطاعون عند حكم الشاميين عطلت حرية الفكر ، وحرية الرأي وحتى حرية الضمير ، وأوقفت العمل بما جاء به الدين المبين ، فانتهى حق الفرد فى الاستقلال عن توجهات بنى أمية ومقاصدهم ونواياهم ، وتبخرت كل القيم الخلقية ، فلم يعد المسلم آنذاك – مستمتعا بحقوقه المدنية والدينية والسياسية وتلاشت مفاهيم الشورى . ومنع الاشتراك فى إدارة شؤون المسلمين . وطفق القصر الأموي يأمر وينهى كإله فى الأرض ينازع الجبار فى ملكوته  ..

وتقدم الحسين ..

تقدم لكن لا باندفاع لا شعوري .. كما يندفع الغاضبون . كلا فهو الإمام المسدد .. تقدم ، وتدفعه مسؤوليته الشرعية والخلقية بعد ما رأى تعطيل الدين وبعد ما حل بالمسلمين .. من ردة عاد فيه نظام ابى جهل والوليد وابى سفيان  ( والناس عادت إليهم جاهليتهم ) .

تقدم الحسين بعدما مات الشعور بالمسؤولية وبعدما ماتت النخوة ، وتوقفت الصحوة فى نفوس الناس ، فلم يبق فى المسلمين رجال عاهدوا الله ..

( الله، أين رجال المسلمين مضوا             وكيف صار يزيد بينهم ملكا ؟)

( المعاصر الخمر من لؤم بعنصره           ومن خساسة طبع يعصر الودكا )

تقدم الحسين بعد ما رأى الخير والشر أمامه فعلم ما يريد . فان الحرية ، عند الحسين ، هي الحد الأقصى لاستقلال أرادته .

إرادته العالمة بما ينفع وبما يضر والمدركة للغاية القصوى لما يحتاجه مجتمع الإسلام

تقدم الحسين نحو ساحات المجد والجلال ليملى على أهل الأرض ان الحرية هي علة النفس الإنسانية العاقلة المقدسة وعلم الناس فى الأرض كيف يستعمل الحر ما لديه من طاقة فى خدمة القضية وكيف يتنبأ بالنتائج  قال عليه السلام:" من لحق بي فقد استشهد ومن لم يلحق بي لم يبلغ الفتح ".

نعم .. يا أبا الأحرار..

من لحق بك فقد استشهد لانك الشهيد على هذه الآمة التى قدمت نفسك قربانا لها كما قدم أبوك و اخوك، أمك وعمك أنفسهم قرابين وكما قدم الأنبياء والشهداء أنفسهم وقودا لتبقى شعلة الإنسانية مضيئة على الدوام، ولتستكمل ديناميكيتها الحرارية لاشعاعها الحراري ، ليكون جهادك موصلا الى ضرورية استشهادك وإدخاله فى كم البطولات والتضحيات ولتمر قافلتك ممتدة الى جميع ظواهر الحياة .. فكل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء . وان التاريخ تطور فى جوهره .. من هابيل أول الشهداء الى الحسين ابى الشهداء .

إن استشهادك هو الفتح المبين كما قلت لانه تاج الحضارة . وان وسائل التآمر على دين جدك وعلى الإنسانية والحضارة فاشلة خاطئة هي كالحبب فى كاس الخمرة فى يد يزيد ..

إن الطغاة يتخيلون ان الزمن وحده بدون راع . كلا  .. فما دامت النهضات والثورات لأجل العدل ، فحبل الظالمين القاهرين قصير .. كذلك قلت للكائنات  " ومن لم يلحق بي لم يبلغ الفتح " لابد من الوصول للحتمية الجهادية فهي أساس المستقبل ، وهدم أشكال الحياة الجاهلية المهزومة المرتكزة على الأنانية والاحتكار وظلم العباد. قال تعالى " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الأرض يرثها عبادي الصالحون " .

قال الشاعر :

وللحرية الحمراء باب            بكل يد مضرجة تدق ..

 ودقت يد الحسين " مبتورة الإصبع " باب الحرية ففتحت أبواب السماء بماء منهمر .. وتقدمت قوافل الفداء من اجل شرف الإنسانية .. وتوج الحسين جبين الحياة بفداء ماله من نظير فكان حقا سيد الشهداء وكان صدقا – كما سماه ولده الصادق – أبا الشهداء ...